الأمم المتحدة وحوكمة الذكاء الاصطناعي

الأمم المتحدة وحوكمة الذكاء الاصطناعي
السفير عمرو حلمي

يمثل الذكاء الاصطناعي أحد أبرز التحولات التكنولوجية التي يشهدها عالمنا المعاصر، ويُعد تأثيره موازيًا للثورات الاقتصادية الكبرى التي غيّرت مجرى البشرية، مثل الثورة الصناعية وثورة المعلومات. 

فقد أصبح الذكاء الاصطناعي عنصرًا أساسيًا في العديد من القطاعات الحيوية، بدءًا من الرعاية الصحية والتعليم، وصولًا إلى الصناعة والخدمات المالية، كما امتد تأثيره ليشمل مختلف جوانب الحياة، حيث لم يعد مقتصرًا على التطبيقات التقنية المتخصصة فحسب، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على مستوى العالم.

ومع تزايد الاعتماد على هذه التقنية المتقدمة، تتزايد التحديات المترتبة عليها، التي تتجاوز الجوانب الفنية لتشمل قضايا أخلاقية وقانونية وأمنية على مستوى العالم. 

فمن ناحية، تثير هذه التكنولوجيا تساؤلات أساسية حول حماية الخصوصية الفردية وضمان حقوق الإنسان، ومن ناحية أخرى، يطرح الذكاء الاصطناعي تهديدات محتملة للأمن القومى، خاصة في مجالات مثل الحروب السيبرانية واستخدامه في الأنظمة العسكرية، بما في ذلك الطائرات المسيّرة والروبوتات العسكرية، الأمر الذي يفتح المجال لسباقات تسلّح جديدة. 

وقد يسهم ذلك في تصاعد التوترات الدولية، خاصة في ظل غياب محددات قانونية واضحة تنظم هذه الاستخدامات، الأمر الذي يفتح المجال أمام نقاشات حيوية حول كيفية إدارة هذه التقنية بشكل آمن ومستدام مستقبلًا.

وسارعت الأمم المتحدة إلى تبني نهج شامل لمواجهة المخاوف المتزايدة بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات العسكرية والأمنية والتأثير في الشؤون الداخلية للدول. ففي عام ٢٠٢٣، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، تشكيل هيئة استشارية تضم ٣٩ خبيرًا من ٣٣ دولة لتقديم توصيات حول إدارة الذكاء الاصطناعي عالميًا وضمان توافقه مع القيم الإنسانية. 

وفى سبتمبر ٢٠٢٤، أصدرت الهيئة تقريرًا أوصى بإنشاء منصة دولية لتبادل المعايير، وتفعيل حوار متعدد الأطراف، وتطوير إطار قانونى دولى يضمن الشفافية والمساءلة، ويلزم الشركات باحترام حقوق الإنسان، وفى السياق ذاته، اعتمدت اليونسكو توصية دولية لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، أعدّتها مجموعة من ٢٤ خبيرًا مستقلًا، لضمان توافق استخدام هذه التقنية مع حقوق الإنسان والمبادئ الأخلاقية.

وتبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في مارس ٢٠٢٤، أول قرار لها بشأن الذكاء الاصطناعي بعنوان: «اغتنام الفرص التي تتيحها أنظمة الذكاء الاصطناعي الآمنة والموثوقة من أجل التنمية المستدامة»، بمبادرة أمريكية ودعم من ١٢٣ دولة. ركّز القرار على ضرورة احترام حقوق الإنسان، حماية الخصوصية، تقليص الفجوة الرقمية، وتعزيز التعاون الدولي.

وأخيرًا، شهدت قمة المستقبل التي عُقدت في سبتمبر ٢٠٢٤ اعتماد «ميثاق المستقبل»، الذي أكّد ضرورة وضع إطار عالمي لحوكمة الذكاء الاصطناعي، من خلال لجنة علمية دولية مستقلة، وإطلاق حوار عالمي يضمن الشفافية، المساءلة، والرقابة البشرية على هذه التقنيات.

وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي تُبذل في إطار الأمم المتحدة من أجل حوكمة الذكاء الاصطناعي، فإن الطريق نحو اعتماد مدونة سلوك عالمية ملزمة لا يزال محفوفًا بالتحديات. 

ويأتي في مقدمة هذه التحديات التسارع الكبير في تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يصعّب على الجهات التنظيمية مواكبة هذه التطورات بشكل فعّال، إذ غالبًا ما تسبق الابتكارات التكنولوجية التشريعات التي يمكن التوصل إليها، كما أن تعدد استخدامات الذكاء الاصطناعي في مجالات متباينة كالصحة والتعليم والأمن والاقتصاد يفرض صعوبات حقيقية في صياغة إطار تنظيمى موحّد وشامل يراعي خصوصيات كل قطاع.

وتزداد هذه التحديات تعقيدًا بفعل تباين الرؤى السياسية والثقافية بين الدول. فبينما تميل قوى كبرى مثل الولايات المتحدة والصين إلى تسريع وتيرة الابتكار مع قدر أقل من القيود التنظيمية، تفضّل دول أخرى تبني سياسات أكثر تحفظًا، مدفوعة بمخاوف أخلاقية واجتماعية. هذا التفاوت في النهج يعقد من مهمة التوصل إلى توافق دولي حول معايير سلوكية موحّدة، خاصة في ظل التحدي الدائم المتمثل في تحقيق التوازن بين تشجيع الابتكار وضمان حماية الحقوق الفردية ومنع إساءة استخدام هذه التكنولوجيا.

ومع ذلك، فإن التفاعل الدولى المتسارع والإرادة السياسية المتزايدة التي نشهدها اليوم تشير إلى أن المجتمع الدولى يتعامل بجدية مع هذه التحولات، سعيًا لتوجيهها بما يخدم مصلحة الإنسانية جمعاء. 

فعلى الرغم من التحديات التي قد ترافق الوصول إلى إطار عالمي عادل وملزم، فإن كل خطوة نحو تعزيز الحوار والمبادرات الهادفة إلى تعزيز التعاون تشكل تقدمًا ملموسًا نحو بناء مستقبل رقمي أكثر عدلًا وأمانًا. ومع تزايد الإرادة الجماعية، إذا ما اقترنت بالحكمة والرؤية الثاقبة، تبقى الفرصة قائمة لتحويل الذكاء الاصطناعي من مصدر للقلق إلى أداة فعالة لتحقيق التنمية المستدامة، ولبناء السلام، ولتعزيز احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.


* نقلًا عن صحيفة المصري اليوم



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية